علم البديع – التقسيم، التجريد وسحر جمالهما
تدقيق لغوي: أ. موانا دبس
قائمة المحتويات
التقسيم
لغةً يعني قسمت الشيء أي جزّأته، وفي الاصطلاح البلاغي أن يُذكر متعدّدٌ، ثم يُضاف إلى كلٍّ من آحاده ما يخصّه على جهة التعيين، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: “كذّبتْ ثمودُ وعادٌ بالقارعة، فأمّا ثمودُ فأهلكوا بالطاغية، وأمّا عادٌ فأهلكوا بريحٍ صرصرٍ عاتية” {الحاقة4}، حيث ذُكر المُتعدّد (ثمود وعاد) ثم أضاف إلى ثمود ما يخصُّهم على جهة التعيين، وهو إهلاكهم بالقارعة بسبب طغيانهم، وأضاف إلى عاد ما يخصُّهم، وهو الإهلاك بالريح شديدة البرودة والصوت القوي المخيف. ومن أمثلته في الشعر قول الشاعر أبي تمام:
فما هو إلّا الوحْيُ أو حدُّ مرْهفِ
تُميلُ ظُباهُ أخدعيْ كل مائلِ
فهذا دواءُ الدّاءِ من كل عالم
وهذا دواءُ الداءِ من كلّ جاهلِ
حيث ذكر المتعدّد، وهما (الوحي وحدُّ السيف) ثم أضاف إلى كلٍّ منهما ما يخصّه على وجه التعيين، فالوحي دواء العالم، وحدُّ السيف دواء الجاهل. [1]
ما هي أنواع التقسيم في علم البديع؟
أطلق البلاغيون مصطلح التقسيم على عدة أنواع، وهي:
● استيفاء جميع أقسام الشيء، حيث ينقسم الشيء إلى اثنين لا ثالث لهما، أو ثلاثةٌ لا رابع لهما، أو أكثر من ذلك، ومنه:
– اثنين لا ثالث لهما، ومنه:” الحمدُ للّه وأستغفرُ الله”، فهما أمران اثنان لا ثالث لهما (الحمد والاستغفار)، والتقدير بأن الحمد لله يختصّ بنعمه، والاستغفار منه يختصُّ بالذنوب.
– ثلاثةٌ لا رابع لهما، ومنه قول الشاعر زهير:
فإن الحقّ مقطعه ثلاث
يمين أو نِفار أو جلاء
فقد قسّم الحق إلى ثلاث لا رابع لهم، وهي الصواب، والتحاكم، وظهور الحقيقة.
● ذِكر أحوال الشيء مضافاً إلى كلّ منها ما يلائمه، ومنه قوله تعالى: “فسوفَ يأتي اللهُ بقومٍ يحبُّهم ويحبّونهُ أذلّةٍ على المؤمنين أعزّةٍ على الكافرين يجاهدون في سبيلِ الله، ولا يخافونَ لومةَ لائم” {المائدة 54}، فقد ذكر أحوال هؤلاء القوم، وأضاف إلى كل حالٍ ما يليق به، حيث جعل حال التذلُّل لهؤلاء القوم موجهةً إلى المؤمنين، وحال العزّة موجهةً إلى الكافرين، وحال الجهاد في سبيل الله موجهةً إلى الله عز وجل. [1] [2]
ما هو الجمع مع التقسيم في علم البديع؟
أي أن يجمع المتكلم شيئين أو أكثر في حكمٍ واحد، ثم يقسّم ما جمع، أو يقسّم متعدّداً ثم يجمع أفراده في حكمٍ واحد.
1- جمع متعدّد ثم تقسيمه
كقوله سبحانه وتعالى: “الله يتوفّى الأنفسَ حينَ مَوتها والتي لم تمتْ في منامِها فيمسكُ التي قضى عليها الموتَ ويُرسلُ الأخرى إلى أجلٍ مُسمّى” {الزمر42}، حيث جمع بين المتعدّد، وهي الأنفس في حالة الموت، والأنفس في حالة النوم في حكمٍ واحد، وهو توفّي الله إياها، ثم قسّم بينها، حيث أمسك التي كُتب عليها الموت، وأرسل الأنفس الأخرى التي لم يحن بعد موعد موتها إلى أجلٍ مسمّى. ومنه قول المتنبي في وصف معركة بين الروم وسيف الدولة الحمداني:
للسّبي ما نكحوا، والقتلِ ما ولدوا
والنّهبِ ما جمعوا، والنّار ما زرعوا
فقد جمع بين المتعدّد، وهم الروم الذين يمثلهم (نساؤهم، وأولادهم، وأموالهم، وزرعهم) في حكمٍ واحد، وهو (الشقاء) ثم قسّم هذا الحكم إلى أقسام تناسب كل واحدٍ منهم، فالسّبي لنسائهم، والقتل لأولادهم، والسّلب لأموالهم، والإحراق لزرعهم.
2- التقسيم الذي يتلوه الجمع
ومن أمثلته في الشعر قول الشاعر حسّان بن ثابت:
قومٌ إذا حاربوا ضرّوا عدوّهم
وإذا حاولوا النّفع في أشياعهم نفعوا
سجيّةٌ منهم غير مُحدثةٍ
إن الخلائقَ ـ فاعلَمْ ـ شرُّها البِدعُ
في البيت الأول قسّم صفة الممدوحين إلى أنهم يضرّون الأعداء إذا حاربوهم، وينفعون الأولياء، وفي البيت الثاني جمع بين الصفتين في حكمٍ واحدٍ، وهو (السّجيّة) أي الطبع والعادة المُتأصّلة فيهم. [1] [2] [3]
ما هو الجمع مع التفريق والتقسيم في علم البديع؟
أن يجمع المتكلم بين شيئين أو عدّة أشياءٍ في حكمٍ واحد، ثم يُفرّق بينهما في ذلك الحكم، ثم يقسّم بين الشيئين أو الأشياء المفرّقة، وذلك بإضافة كلٍّ إلى ما يناسبه، ومنه قوله سبحانه وتعالى: “يومَ يأتِ لا تكلَّمُ نفسٌ إلا بإذنهِ فمنهُمْ شقيٌّ وسعيد” {هود 105}، فهنا جمع الأنفس في حكمٍ واحد، وهو (لا تكلّم نفسٌ) ثم فرقّ بينهما في (الشّقاء والسعادة).
أما التقسيم فجاء في قوله تعالى: “فأمّا الذين شَقوا ففي النار لهم فيها زفيرٌ وشَهيق” {هود 106}، حيث قسّم بين الذين كُتب عليهم الشقاء ما يناسبهم، وهو دخولهم إلى النار. أما القسم الثاني في قوله تعالى: “الذين سُعدوا ففي الجنّةِ خالدين فيها ما دامتِ السماواتُ والأرضُ إلَّا ما شاءَ ربُّك عطاءً غيرَ مَجْذوذ” {هود 108}، فهم المؤمنون السُّعداء الذين أُدخلوا الجنّة. [3] [4]
جمالية التقسيم
تتجلى جمالية التقسيم في الجمع بين شيئين أو أكثر في حكمٍ واحد، وبيان ما يخصّ كل واحدٍ منها على انفراد، والأشياء تشترك في الأحكام العامة، وتختلف في الجزئيات الدقيقة، مما يشعر المتلقي بالبهجة عندما يتعرف إلى الحكم العام، كما تميل نفسه أيضاً إلى معرفة جزئيات الشيء، وإدراك وجوه الاختلاف بين الأشياء المتقاربة. [1]
ما هو التجريد؟
يعرف التجريد لغةً أنه إزالة الشيء عن غيره، أما بلاغياً، فهو أن ينتزعَ المتكلم من شيءٍ مُدّعىً كماله في صفةٍ من الصفات شيئاً آخر مثله في هذه الصّفة، والهدف من استخدام هذا الفن البديعي المُبالغة في اتصاف الشيء بصفة ٍ من الصفات إلى حدٍّ ادعاء كمال الصفة فيه، ويصحُّ معه انتزاع موصوفٍ آخر يتصف بهذه الصفة. [1] [3] [5]
ما هي أقسام التجريد؟
1- ما يكون باستخدام (مِنْ) التجريدية
كأن تقول: “لي من الصبر خيرُ مُعين”، فقد اكتملت صفة الإعانة في الصبر حتى صحَّ أن نستخلص منه معيناً آخر مثلهُ في الإعانة.
2- ما يكون باستخدام (الباء) التجريدية التي تدخل على المُنتزَع منه
ومنها قول: “لئن سألتَ فلاناً لتسألنْ بهِ البحر”، حيث بالغوا في وصف كرمه حتى انتزعوا منه بحراً فيه.
3- ما يكون باستخدام (باء المعيّة) التي تدخل على المُنتزَع
ومنها قول الشاعر:
وشَوهاءُ تعدو بي إلى صارخِ الوغى
بمُستلئمٍ مثلِ الفنيقِ المُرحّلِ
فمعنى (تعدو بي) أي تعدو معي، فالشاعر بالغ في وصف كمال استعداد هذه الفرس الطويلة والنحيلة للحرب حتى انتزعَ منها كمال استعداده للحرب.
4- ما يكون باستخدام (في) التي تدخل على المُنتزَع منه
كما في قوله تعالى: “لهم فيها دارُ الخُلْد” {فصّلت28}، أي في جهنّم التي هي دار الخلود للكافرين، وقد انتُزِع منها دارٌ أخرى مثلها أُعدّت لهم، وذلك للمبالغة والتهويل في وصف جهنّم.
5- ما يكون دون استخدام حرف يدلُّ عليه
كقوله تعالى: “وإن نكثوا أيْمانهم من بعدِ عهدهم وطَعَنوا في دينكمْ فقاتلوا أئِمَّة الكُفْر” {التوبة 12}، حيث وصف الكافرين بدرجةٍ عالية من الإنكار والعدوان، حتى انتزع منهم قادةً للكفر.
6- ما يكون بطريق الكناية
كقول الشاعر الأعشى:
يا خير من يركبُ المَطيَّ ولا
يشربُ كأساً بكفّ من بخِلا
فالممدوح يمتنع عن شرب الخمر من يد البخيل، فهي كنايةٌ عن كرمه، والمقصود أنه هو الكريمٌ الذي لا يشربُ الخمر إلا بكفّه، فقد انتزع من ممدوحه شخصاً كريماً لا يشرب إلا بكفه.
7- ما يكون بمخاطبة الإنسان لنفسه
حيث ينتزع من نفسه شخصاً آخر مثله في الصفة التي سيق لها الكلام ثم يخاطبه، كقول الشاعر المُتنبّي:
لا خيلَ عندكَ تُهْديها ولا مالُ
فلْيُسْعِدِ النُّطْقُ إنْ لم يُسْعِدِ الحالُ
فقد جرّد الشاعر من نفسه شخصاً آخر مثله في صفة (الفقر) التي سيق لها الكلام. [1] [4] [5]
جماليات التجريد
تتجلى جمالية التجريد في المُبالغة المُستساغة، وتأكيد المعنى مع قبول النفس له، ففي التجريد نلاحظ تضخُّم صفة الشيء إلى حدٍّ يلغي صفاته الأخرى، حيث تكون شخصيته في هذه الصفة، أو مثالاً لها أو صورةً مماثلةً لها. أما التجريد في مخاطبة الإنسان لنفسه، فتسمح للإنسان تصوير ما يجول في فكره بكلّ ما فيه، وإجراء الأوصاف المقصودة دون حرج، لأنه يوجّه الخطاب إلى غيره، فيكون أخفُّ التزاماً بما يقول. [1]
المراجع البحثية
1- عيسى علي العاكوب. (2005). التقسيم- التجريد. المفصّل في علوم البلاغة العربية(pp. 586–590). essay, مديرية الكتب والمطبوعات الجامعية. Retrieved April 25, 2024
2- جلال الدين محمد بن عبد الرحمن/الخطيب القزويني. (2010). علم البديع. الإيضاح في علوم البلاغة (المعاني والبيان والبديع) لونان (pp. 270–273). دار الكتب العلمية. Retrieved April 25, 2024
3- إميل بديع يعقوب. باب الجيم- الجمع مع التقسيم (2006). موسوعة علوم اللغة العربية 1-10 مع الفهارس ج5 (p. 98). Retrieved April 25, 2024
4- التجريد Version (2020). محاضرات ونماذج وتطبيقات مختارة. Retrieved April 25, 2024
5- عبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني الدمشقي. (1996). البديعية المعنوية. البلاغة العربية (pp. 32–35). دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت. Retrieved April 25, 2024