ظاهرة النفق الكمي – ما هي؟ اكتشافها وأهمُّ تطبيقاتها
تدقيق لغوي: أ. موانا دبس
قائمة المحتويات
عندما تَصل الأشياء إلى أبعاد من مرتبة الذرة، فإنَّ قوانين الفيزياء المَعروفة والمُسمّاة بالفيزياء الكلاسيكية، والتي تحكم عالمنا المرئي لم تعد صالحةً للتطبيق، لذا نضطر هنا لاستخدام علمٍ جديد يُسمى بميكانيك الكم، والذي يَعتمد على قوانين ومبادئ، ومفاهيم جديدة مُختلفةً عن الفيزياء الكلاسيكية.
بالرغم من غرابة هذا العلم إلا أنَّه حقق نجاحاتٍ باهرةً في فهمنا للطبيعة، ومن بين كل النجاحات التي حققها هذا العلم، لم يكن هناك ما هو أكثر غرابةً من ظاهرة النفق الكمي، إذ تُعتبر هذهِ الظاهرة ليس لها نظير في الفيزياء الكلاسيكية. لتوضيح هذهِ الظاهرة سنسوق المثالين التاليين:
– المثال الأوَّل: إذا كنت واقفاً على أحد جانبي جبل، وأردت أن تصل إلى الجانب الآخر، فلابدَّ لك منَ الصعود من جانب الجبل، والنزول من الجانب الآخر. في ميكانيك الكم يمكنكَ التفكير بالجبل كحاجزٍ طاقي بالنسبة لك، لذا فإنك بحاجةٍ لطاقةٍ من أجل الصعود لهذا الجبل، وإلا ستبقى في مكانك. في ميكانيك الكم هناك طريق أسرع للوصول إلى الجانب الآخر للجبل، وهي حفر نفقٍ ضمن الجبل يصل بين جانبيه، وهذا يسّهل عملية وصولك بين جانبي الجبل، كما يظهر الشكل في الأسفل:
– المثال الثاني: إذا وضعت كرةً صغيرةً ضمن كأسٍ زجاجية، فانَّه وفقاً لقوانين الفيزياء الكلاسيكية لن تتمكن الكرة من الخروج من الكأس إلَّا إذا امتلكت طاقةً أكبر من طاقة جدار الكأس الزجاجي، ولكن إذا نزلنا إلى الأبعاد الذرية، فانَّ هذهِ الكرة يُمكنها النفاذ من جدار الكأس الزجاجية بالرغم من أنَّ طاقتها أقل من طاقة الجدار، لذا لا يمكن تفسير هذهِ الظاهرة إلَّا عن طريق ظاهرة النفق، حيثُ يتمكن هذا الجسيم من حفر نفقٍ له، والنفاذ عبر الجدار، كما يظهر الشكل في الأسفل:
منَ المثالين السابقين يتضح لنا بأنَّ ظاهرة النفق الكمي (Quantum Tunneling)، هي ظاهرةٌ ليس لها شبيه في الفيزياء الكلاسيكية، وفيها يَخترق جسيم حاجزاً كمونياً بالرغم من أنَّ طاقة هذا الجسيم لا تسمح له بعبور هذا الحاجز كون طاقة الجسيم أقل من طاقة الحاجز، فعندما يواجه الجسيم حاجزاً، فإنَّه من البديهي أن يتوقف هذا الجسيم عندَ هذا الحاجز أو أن يرتد عنهُ إلى الخلف، وهنا تلعب ميكانيكا الكم دورها في تفسير ظاهرة النفق الكمي. [1] [2]
تاريخ اكتشاف ظاهرة النفق الكمي
تمَّ التنبؤ بظاهرة النفق الكمي في أوائل القرن العشرين، وقد جاء قبولها كظاهرةٍ فيزيائيةً عامة في منتصف القرن، وسنقدم سرداً سريعاً للتسلسل التاريخي لاكتشاف هذهِ الظاهرة نُشرت معادلة شرودنغر لأوَّل مرَّة في عام 1926، وكانَ Friedrich Hund أوَّل من قام بتطبيق هذهِ المعادلة على مَسألة إيجاد احتمالية نفوذ الأجسام خلال حاجزٍ كموني عن طريق ظاهرة النفق الكمي بين منطقتين مَسموح بهما كلاسيكياً، ونُشرت هذهِ الأبحاث في عام 1927 ضمنَ سلسلة من المقالات.
كما أكَّد العالمان Leonid Mandelstam وMikhail Leontovich، وبشكلٍ منفصلٍ على وجود ظاهرة النفق الكمي، ونشرا نتائجهم في عام 1928، وفي عام 1927، نشرَ العالم Lothar Nordheim بمُساعدة العالم Ralph Fowler، ورقةً بحثيةً ناقشا فيها الانبعاث الحراري، وانعكاس الإلكترونات منَ المعادن، حيثُ افترضا وجود حاجزٍ سطحي يحصر الإلكترونات داخل المعدن، وأظهرا أنَّ لهذهِ الإلكترونات احتمال مَحدود لاجتياز النفق عبرَ هذا الحاجز السطحي عندما تكون طاقاتها قريبةً من طاقة الحاجز.
وفي عام 1928 نشرَ العالم J. Robert Oppenheimer ورقتين بحثيتين عن انبعاث الإلكترونات الناجم عن المجالات الكهربائية القوية، والذي أظهر فيهِ أهمية وجود ظاهرة النفق الكمي لوصف انبعاث الإلكترونات منَ المعادن، وكانَ النجاح الأكبر لنظرية النفق الكمي هوَ تفسيرها الرياضي لاضمحلال جسيمات ألفا، والذي تمَّ تطويره في عام 1928 من قبل George Gamow، وبشكلٍ مستقل من قبل Ronald Gurney وEdward Condon، حيثُ قام هذان الباحثان، وفي الوقت نفسهُ بحل معادلة شرودنغر، واستنتجا علاقةً تربط بين عمر النصف لجسيم ألفا وطاقة الانبعاث التي تَعتمد بشكلٍ مباشر على الاحتمال الرياضي لاجتياز النفق الكمي.
لم يتمُّ استخدام مصطلح ظاهرة النفق الكمي في الأيام الأولى لنظرية الكم، حيثُ دخلَ هذا المصطلح في عام 1932 عندما استخدمهُ Yakov Frenkel في أبحاثه، وأوضحَ Leo Esaki في عام 1957 ضرورة افتراض وجود نفقٍ للإلكترونات عبرَ حاجزٍ عرضه بضع نانومترات في المواد شبه الموصلة، وذلكَ لتأمين انتقال الإلكترونات، وبناءً على هذا الاكتشاف قامَ بتطوير الصمام الثنائي الذي يَعتمد في مبدئه على ظاهرة النفق.
أثبتَ Ivar Giaever في عام 1960 وبشكلٍ تجريبي أنَّ ظاهرة النفق الكمي تحدث أيضاً في الموصلات الفائقة، وتنبأ Brian Josephson في عام 1962 بوجود ظاهرة النفق الكمي ضمن أزواج كوبر فائقة التوصيل. وفي عام 1981، قام Gerd Binnig وHeinrich Rohrer بتطوير نوعٍ جديدٍ من المجاهر يُسمى بالمجهر الماسح النفقي (The Scanning Tunneling Microscpe (STEM))، والذي يَعتمد على ظاهرة النفق الكمي في تصوير الأسطح على المستوى الذري، حيثُ حصل هذان العالمان على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1986 لهذا الاكتشاف. [3]
تطبيقات ظاهرة النفق الكمي
تمَّ الاستفادة من ظاهرة النفق الكمي في العديد من التطبيقات العملية، سنذكر أهمها: [4] [5] [6]
1- تطبيق ظاهرة النفق الكمي في المجهر الماسح النفقي
قامَ العالمان Heinrich Rohrer و Gerd Binnig بتطوير المجهر الماسح النفقي، والذي يُعتبر أحد أنواع المجاهر الإلكترونية التي تساعد على مراقبة الأشياء على المستويات الذرية. يقوم هذا المجهر بتحليل السطوح باستخدام الرأس المُدببة، حيثُ يُمكنه التمييز بين الأبعاد الأصغر من مرتبة 0.1 نانومتر ودقة عمق 0.01 نانومتر. وتُعتبر المسافة بين الرأس المدببة للمجهر وسطح العينة هي الحاجز الكموني، والذي يجب ألّا تزيد عن بضع نانومترات.
فعندَ تطبيق فرق كمون بين النهاية المدببة والعينة، تَجتاز الإلكترونات الحاجز الكموني بين النهاية المدببة والعينة، ويتمُّ التحكم بالنهاية المدببة باستعمال مواد كهروضغطية تتغيّر أبعادها بتطبيق كمونٍ عليها، ومن ثمَّ فإنَّ التغيرات في النهاية المُدببة تعكس بدقة ما تحت السطح، لذا يُمكن للمجهر النفقي أن يصوِّر بسهولة ذرات مُفردة على السطح.
2- تطبيق ظاهرة النفق الكمي في الاندماج النووي
لظاهرة النفق الكمي أهميةً كبيرةً في الاندماج النووي. عادةً لا يكون متوسط درجة حرارة قلب النجم كافياً للتغلب على الحاجز الكولومي للنوى الذرية، وبدء حدوث الاندماج النووي الحراري، لذا فإنَّ النفق الكمي يزيد من فرص اختراق النوى لهذا الحاجز، وبالرغم من أنَّ هذا الاحتمال صغير، إلَّا أنَّ العدد الهائل منَ النوى الموجودة في قلب النجم يكفي لدفع تفاعلٍ اندماجي ثابت.
3- تَطبيق ظاهرة النفق الكمي في التفكك الإشعاعي
التفكك (التحلل أو الاضمحلال) الإشعاعي هوَ عملية انبعاث الجسيمات والطاقة من نواة الذرة غيرَ المُستقرة لتصبح نواةً مُستقرة، وبما أنَّ الحاجز الكولوني للنواة يَمنع خروج الجسيمات المَشحونة منها، كجسيمات ألفا، والإلكترونات، والبوزيترونات، لذا لابدَّ أن يتمُّ ذلك عنَ طريق ظاهرة النفق.
4- تطبيق ظاهرة النفق الكمي في الإلكترونيات
تُعتبر الديودات أجهزةً شبه موصلة كهربائياً تَسمح بتدفق التيار الكهربائي في اتجاهٍ واحدٍ أكثر من الآخر، ويَعتمد مبدأ عملها على وضع طبقة استنزافٍ بين شبهي موصلين أحدهما من النوع N والآخر من النوع P. عندما يتمُّ حقن هذهِ الطبقة بالشوائب، يُمكن أن تصبح هذهِ الطبقة رقيقةً بما يكفي لحدوث ظاهرة النفق، وعندَ تطبيق انحيازٍ أمامي صغير، يكون التيار الناتج عن ظاهرة النفق كبيراً.
نظراً لأنَّ التيار الناتج عن ظاهرة النفق ينخفض بسرعة، لذا يُمكن إنشاء ديودات نفقية لها نطاق من الفولتية يتناقص فيها التيار معَ زيادة الجهد. تُستخدم هذهِ الخاصيّة الغريبة في بعض التطبيقات، مثل: الأجهزة عالية السرعة، حيثُ يتغيّر فيها احتمال حدوث ظاهرة النفق بنفس سرعة تغيُّر جهد التحيز.
كما أظهرت بعض الأبحاث إمكانية استخدام ظاهرة النفق الكمي في الترانزستورات ذات التأثير الحقلي، حيثُ يتمُّ التحكم في البوابة عن طريق النفق الكمي بدلاً من الحقن، مما يُقلل جهد البوابة من ≈1 فولت إلى 0.2 فولت، ويُقلل استهلاك الطاقة بشكلٍ كبير، وهذا يؤدي لزيادة قوة الدوائر المُتكاملة.
5- تطبيق ظاهرة النفق الكمي في الإصدار البارد للإلكترونات
تُعتبر ظاهرة الإصدار البارد للإلكترونات مُشابهةً لظاهرة الانبعاث الحراري للإلكترونات، حيثُ تقفز الإلكترونات عشوائياً من سطح المعدن لتتبع انحياز الجهد، كونها تمتلك طاقةً أكبر من الحاجز، وذلكَ نتيجةً للتصادمات العشوائية معَ الجسيمات الأخرى، فعندما يكون المجال الكهربائي كبيراً جداً، يُصبح الحاجز رقيقاً بدرجةٍ كافيةٍ لخروج الإلكترونات من الذرة، مما يؤدي لنشوء تيارٍ يتغيَّر بشكلٍ كبير مع تَغيُّر المجال الكهربائي. تُستخدم مثل هذهِ المواد في صناعة الذواكر الحاسوبية، وفي الأنابيب المُفرغة، وفي بعض المجاهر الإلكترونية.
6- تطبيق ظاهرة النفق الكمي في الحوسبة الكمية
تُعتبر الحوسبة الكمية واحدةً من أهمّ التطبيقات المُحتملة لظاهرة النفق الكمي، حيثُ يتمُّ استخدام حواسيب تُخزِّن البيانات ضمنَ وحدات تُسمّى بالكيوبت (Qubits) بدلاً من تخزينها في البتات المستخدمة حالياً، إذ يُمكن أن توجد هذهِ الكيوبتات على شكل تراكبٍ منَ الحالات.
وذلكَ نتيجةً لانتقال هذهِ الكيوبتات بين الحالات المُختلفة وفقاً لظاهرة النفق الكمي، مما يؤدّي لمُعالجة بياناتٍ أسرع بكثير، وهذا من شأنه أن يُعزز قدرات أجهزة الحواسيب الكمية بشكلٍ كبير، وبالتالي يمُكِّنها من حل المشكلات التي تكون مُستعصيةً حالياً على أجهزة الحواسيب الكلاسيكية.
7- تطبيق ظاهرة النفق الكمي في البيولوجيا
يُعدُّ النفق الكمي إحدى الظواهر الكمومية الأساسيّة في علم البيولوجيا، إذ تُعدُّ ظاهرة النفق الكمي عاملاً حاسماً في العديد من تفاعلات الأكسدة والعمليات الكيميائية الحيوية، كالتنفس الخلوي، والتمثيل الضوئي، والتحفيز الأنزيمي. كما تَلعب ظاهرة النفق للبروتون دوراً رئيسياً في حدوث طفرة الحمض النووي التلقائية.
المراجع البحثية
1- Dirac, P. a. M., & Polkinghorne, J. C. (1958). The principles of quantum mechanics. Physics Today, 11(6), 32–33. Retrieved August 26, 2024
2- Yash. (2022, March 19). Quantum tunneling: explained. Medium. Retrieved August 26, 2024
3- Wikipedia contributors. (2024, August 15). Quantum tunnelling. Retrieved August 26, 2024
4- Quantum Tunneling: Principles & Applications. (n.d.). StudySmarter UK. Retrieved August 26, 2024
5- Trixler, F. (2013). Quantum tunnelling to the origin and evolution of life. Current Organic Chemistry, 17(16), 1758–1770. Retrieved August 26, 2024
6- Binnig, G., & Rohrer, H. (1987). Scanning tunneling microscopy—from birth to adolescence. Reviews of Modern Physics, 59(3), 615–625. Retrieved August 26, 2024